اسم الله الحكم
قال بعض العلماء: " الحَكَم؛ هو صاحب الفصل بين الحقِّ والباطل ".
أحياناً الباطل له جولةٌ وصولة، ربما سمح الله له أن يعلو، ربما أرخى الله له الحبل لكن إلى أمد.. لأنَّه حَكَم؛ لا بدَّ من أن يزهق الباطل، لأنَّ الله موجود.. لو أنَّ الباطل استشرى وامتدَّ وطغى وبغى إلى أمدٍ طويل، هذه الفكرة تتناقض مع وجود الله، لا بدَّ من أن يظهر الله آياته، وما أكثر الآيات، والآيات نراها كلَّ يوم.
مثلا.. شريكان؛ كلٌّ يدَّعي أنَّه على حق، وأنَّ شريكه الآخر ظلمه.. الإنسان أحياناً يتكلَّم، ويأتي بالحجج الواهية، ويفتري ويخترع أدلَّةُ غير صحيحة، يوهم الناس، ولكنَّ الله هو الحكم.. فالشريكان؛ الظالم يُهلكه الله، والمظلوم يوفِّقه الله.. توفيق الله للمظلوم؛ هو حُكْمُ الله فيه. إهلاك الظالم هو حُكْمُ الله فيه.
أيام يتوفّى أبٌ ويترك أولاداً، أحد أولاده الأقوياء يأخذ المال كلَّه، ويحرم إخوته، تدور الأيّام هؤلاء المظلومون إخوة هذا الأخ الباغي الظالم، يوفَّقون في أعمالهم، وهذا الذي أخذ المال الحرام، يُتلف الله ماله، وأحياناً يُضطرُّ أن يعمل عند إخوته.. الذي أخذ المال كلَّه وحرم إخوته منه، يخذله الله، ويتلف ماله، فيُضطرَّ أن يعمل عند إخوته الذين حرمهم من إرث أبيهم، فالله هو الحَكَمُ.
فعندنا حكم يوم القيامة، لكن هناك حكم في الدنيا، هو نصر الله أو خِذلانه، توفيقه أو عدم توفيقه، تيسيره أو تعسيره، وما أكثر الشواهد، حياتنا زاخرةٌ بهذه الشواهد.. الذي كسب مالاً حلالاً قليلاً، يبارك الله له فيه، والذي كسب مالاً حراماً كثيراً، يتلِفُ الله ماله، الذي برَّ والديه يهبه الله أولاداً أبراراً، والذي عقَّ والديه يهبه الله أولاداً عاقّين؛ هذا حكم الله له.
قال تعالى: " أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" (الجاثية: 21)، يعني شابٌ مؤمنٌ مستقيمٌ، ويخاف الله ويرجو رحمته، ويتحرّى الحلال، ويبحث عن زوجةٍ صالحة، لا يكذب، ضابطاً لجوارحه، ضابط لدخله وإنفاقه، وشابٌ آخر متفلِّتٌ ليس عنده عقيدة، ولا استقامة، ولا عبادة، ولا حلال ولا حرام، يفعل ما يشاء. فإذا تساوى هذان الشابّان في التوفيق وفي النصر والتأييد، وفي التمتُّع في الحياة الدنيا. إن تساويا ولم يكن هناك فرقٌ بينهما، هذه الفكرة تتناقض مع وجود الله الحكم.
فالحَكَمُ توفيقه حُكْمٌ، تيسيره حكم، تعسيره حكم، إلقاء الأمن في قلب المؤمن حكم، إلقاء الخوف والفزع في قلب المشرك حكم، أن يُقدِّر للإنسان حياةَ ضنك؛ أن يقدِّر للإنسان حياةً طيِّبة حكم، أن ينصرك حكم، أن يخذلك حكم، إن دعوته فاستجاب لك فدعاؤك صادق ومخلص، وإن لم يستجب فهناك سببٌ حال دون أن يُستجاب لك حكم.
إن الله الحكم يُميِّز بين الشقيِّ والسعيد فقد قال تعالى: " مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ" (آل عمران: 179).
في الدنيا قد يحكم القاضي، ولكنَّ محكمة النقض تنقُض حكمه، وقد يحكم رئيس محكمة النقضِّ، ولا يُصدَّق حكمُه، لكنَّ الله سبحانه وتعالى لا معقِّب لحكمه، وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مردَّ له لا تعقب لحكمه.
قال الغزالي: " الحكم؛ هو الذي لا يقع في وعده ريب "، إذا وعد.. لأنَّ ربنا عزَّ وجلَّ يطمئننا، إذا حدَّثنا عن المستقبل، جاء الفعل ماضياً ففي قوله تعالى: " أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ" (النحل: 1)
بعض معاني هذا الاسم العظيم الحكم.. النّافذ حُكْمُه، فالإنسان أحياناً يصدر تعليمات فلا تنفَّذ، أو تنفَّذ في مركز المدينة، وفي أطرافها لا تنفَّذ، ما أكثر التعليمات التي تصدر والتي لا تنفَّذ. فبالطبع ليس كلَّ إنسان حكمه نافذ. أو لو أنَّ الإنسان أراد أن ينفذ حكمه، لاحتاج إلى جهاز كبير جداً، يعني الساعة الثالثة في منتصف الليل لا يوجد شرطي، فإذا كانت الإشارة حمراء يمكنه أن ينفذ منها ويتخطّاها، وبذلك نكون قد خرقنا حكم قانون السير، فمن غير المعقول وضع عند كلِّ إشارة شرطي ليلاً ونهاراً. إذاً الحكم لم يُنَفَذْ، فالإنسان أضعف من أن يُنفِّذ حكمه، أما الله سبحانه وتعالى، الحكم النافذ حكمه.
كلمة " ...وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ... " (يونس: 109)، معنى ذلك؛ أنَّ هناك وقتاً وفيه ظلمٌ فقد يكون الإنسان مظلوماً. فالسيِّدة عائشة ألم تُظلم؟ فلماذا أخَّر الله الوحي شهراً؟ من أجل أن تُكشف النفوس، فأخَّر براءتها شهراً بأكمله، المؤمنون ظنّوا بأنفسهم خيراً، والمنافقون روَّجوا هذا الخبر وأشاعوه وأرجفوا في المدينة.. دققوا في هذه الكلمة من الآية " وَاصْبِرْ حَتَّى " أي اصبر إلى أن، فحتى حرف غاية.. " حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ " حتى يتصرف، حتى يقصم الظالم، وينصر المؤمن " وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ".
سيِّدنا يوسف.. ماذا حكم عليه إخوته؟ أن يقتلوه، ألقوه في غيابت الجب ليموت.. بعد حين ماذا كانت النتيجة؟ دخلوا عليه فإذا هو عزيز مصر، مقامه كبيرٌ جداً، فمصر كانت أكبر مملكة هو رئيس وزارتها.
اسم الله الحكم، يقتضينا أن نحتكم إلى الله أول موقف..أما إذا حُكِّمنا.. أن نحكم بالعدل، ينبغي أن نحتكم إلى الله لأنَّه يعلم كلَّ شيء، يعلم السرَّ وأخفى، ويقتضينا إذا حُكِّمنا في قضيَّة ألا ننحاز مع أحد.
أحد القضاة وكان معروفاً في مدينته أنَّه يُحِبَّ الرُطب في بواكيرها، طُرِق بابه، فتح الغلام الباب، رأى رجلاً معه طبقاً رطب - وهذا شيء نفيس جداً في بواكيره، وهو غالٍ كثيراً، ومن نوع جيِّد -، فرجع إلى القاضي قال له: يا سيِّدي بالباب رجل ومعه طبقٌ رُطب. فقال له: صف لي إيَّاه. قال: صفته كيت وكيت. فعرف أنَّه أحد المتخاصمين، فقال: رُدَّ الطبق إليه. بعد حين قابل الخليفة وطلب إعفاءه من منصب القضاء. قال: ولِمَ وأنت الورع النزيه العالم الفقيه المجتهد؟ قال: والله جاءني قبل أيَّام رجل قدَّم لي طبق رطب، وفي اليوم التالي جاء مع خصمه ليحتكما إلي، تمنيَّتُ أن يكون الحقُّ مع صاحب الطبق الذي قدَّمه إلي، هذا مع أنِّي رددته فكيف لو قبلته؟.... فالله الحكم الذي لا يميل مع أحد، والله الحكم الذي لا يحابي أحد، فمَن مِن الخَلْق يخلوا من أن تعترضه هذه الآفات التي تقدح في حكمه.
أنت حكماً بين ابنتك وصهرك، وتكلَّمت البنت على كيفها، فزمجرت وأرعدت وغضبت وقلت: هذا الصهر ليس عنده أدب، وسوف أقوم بتربيته وحرمانه من زوجته ستة أشهر.. فهل أسمعت منه قبل أن تحكم؟، نعم..الله لأنه عالم لا يحتاج أن يسأل الطرف الثاني، فهو يعلم السر وأخفى، فحكمه بناء على معرفةٍ بأقوال المتخاصِمَيْن، فالحكم يحكم بين اثنين، فلابد وأن يكون سمع من الاثنين، فمن يحكم قبل أن يسمع الاثنين فهو ظالم لا يعرف العدل، والعدل لا يحتاج إلى علم بأقوال الاثنين، وإذا فُقِد العلم بأقوال الاثنين وقع الحاكم في الظلم.
قال أحدهم لأحد الشيوخ: يا سيدي قد لطمني أحدهم كفاً، فرددته له، أَعَليَّ شيء؟ قال له الشيخ: لا ليس عليك شيء. ثمَّ ظهر أنَّ الذي ضربه هو أبوه. فالفتوى على قدر الوصف.
فالقضاء دقيق.. سمعت من ابنتك شيء وتكلَّمت عن زوجها كلَّ شيء، ألا يقتضي الحكم العدل أن تسمع من زوجها، ماذا فعلت به؟ سمعت من والدتك، فاسمع من زوجتك رأساً طلقها دون سماعها، فأنت أحياناً تكون حكماً بين زوجتك وأمك، وبين ابنتك وصهرك هؤلاء أقرب الناس إليك، أو تكون رئيساً لدائرة وعندك موظفان متشاجران دوماً، فإذا سمعت من واحدٍ منهم، فاستمع للآخر، ولا تعاقب على الفور بعدما سمعت من الأوّل، فإذا كنت حكماً يجب أن تحكم بالعدل، والعدل مبني على العلم، والله له العلم التام المحيط بكل شيء فحكمه على الأشياء بحكمة لأنه مبني على علم تام لا تنقصه أي معلومة يحتاجها الحكم، فمن يحكم على الناس فقد تقمص وصف الله، ومن يحكم على الناس فقد قام مقام الحَكَم، ومن يحكم على الناس كأنه يدّعي أنه تام المعرفة محيط بكل قول قيل في القضية ليحكم فيها، ومثل ما سبق من يصف الناس بقوله هذا مبتدع، وهذا فاسق، وهذا عاصي، وهذا من فرقة كذا الضالة، فليتق الله أقوامٌ موقوفون أمام الحَكَم يوم القيامة قائلا لهم " وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ" (الصافات: 24)، وأقول لكل من ظلمه إنسان وحكم عليه بغير الحق، سيحكم الله لك غدا بالحق، فكل الأحكام باطلة إلا حكم الله "إن الحكم إلا لله" لأنه احكم الحاكمين.
قد يغيب عن الناس أن كلمة قاضٍ، هو إنسان بقَصْر العدل (المحكمة)، يعتلي منصة القضاء، ويحكم بين الناس، من قال لك ذلك؟ أنت في مئات الحالات قاضٍ، أنت أب عندك بنت متزوجة، جاءت البنت إليك تشكو زوجها، فأنت أردت أن تكيل الصاع صاعين لزوجها، أبقيتها عندك، ومنعتها من الاتصال به، سألته أنت؟ هل سألت زوجها ما الذي يزعجه منها؟ أبداً، انحاز إلى ابنته انحيازاً كاملاً، هو حكم الآن، لكن ما كان حكماً عادلاً، ما سمع من الطرفين.
الحَكَم هو القادر على الفصل، وليس هذا إلا لله.. الحَكَم هو التام العلم في كل خصومة تُرْفع إليه، وليس هذا إلا لله.. الحكم هو العادل الذي بنى علمه على علم تام، وليس هذا إلا لله.. الحَكَم هو القهار الذي يقهر المتخاصمين على حكمه الذي حكم به بينهم "فلا رادّ لحكمه".
هذه الصفات لا تجتمع إلا في الله على الكمال، فلا تدخل في اختصاص ليس من اختصاصك، وتذكر أنك إن حكمتَ حَكَمَ الله عليك لأنه "أحكم الحاكمين"، وتذكر أن من يحكم بين العباد في الأرض هم العلماء المجتهدون الذين يوقّعون الأحكام نيابة عن الله بأمر من الله.. فهل انت منهم؟